قال أسمعك يا كروان .. ومنذ أن أخذت الشمس تزحف نحو الغرب وأنت تردد تلك القصة .. والآن نرى الليل وقد أسدل الستار .. وغطى الكون بدثار من سواد .. فأصبح صوتك حراً لا تنازعه مزعجات النهار .. أسمعك وأن تريد أن نروي الحكاية من جديد .. وأنا ذلك الكتلة من جسم لبشر دون أيد وأرجل .. وتلك عيون تدمع فلا أبهام تزيل الدموع .. فلا أيد أشير بها عند حديثي .. ولا أرجل تعربد بالألم كما تفعل الذبيحة .. فأنا مذبوح ومحروم من لوازم الألم .. من أرجل وأيد .. ولا أملك من العدة إلى لساناً وعيوناً .. وأنت يا كروان تريد أن تسمع قصتي مرات ومرات .. وصوتك يلح في جوف الليل بالنداء والنحيب .. وأنا تعودت أن أحكي قصتي لك كل ليلة قبل أن أنام .. وعندما تأتي زمرة النعاس ثم تعصر عيني أدخل في أحلامي تلك المعهودة وأنا بأرجلي وبأيدي .. ولكن في أحلام .. وبعد أن أترك الساحة لكروان يروي قصتي من جديد لكل رائح وغاد .. ثم عندما ينتهي من قصتي بنادي بصوت حاد يشق عباب الليل .. فتنتفض بنات الأعشاش حزناً ورعباً وألماً وحسرةً على قصة حزينـة .
( هذه القصة ملك الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد )
قصتي يا كروان مثلي ومثل غيري أحببت وطني .. ثم أحببت أهلي .. ثم أحببت عشيرتي .. ثم كما تشير السنة والفطرة اخترت شريكة حياتي .. وعشت معها أحلى أيام عمـري .. وهناك كانوا أصحابي .. وهناك كانوا أصدقائي .. ثم هناك كانوا معارفي .. ثم نادى المنادي .. بواجب يفترض .. وضريبة لا بد أن تدفع لوطن عزيز .. هناك أعداء وهناك متربصون أرادوا كيداً بالوطن الغالي .. فنادى المنادي .. وطلبوا من الجميع أن يهبوا للذود عن الوطن والدفاع عن الشرف والعز .. ولبى النداء كل وطني يحب وطنه .. فكنت واحداً منهم أهدى حياتي فداءاً للوطن العزيز الغالي .. ودارت الأيام .. ودارت الحروب سجالاً .. كراً وفراً .. وفي ذات يوم شاءت الأقدار أن تضل الأقدام ساحة السلام والأمن ثم تطأ لغماً أرضياً زرعت بخبث من عدو خبيث .. وفي لحظات كانت تلك الزوبعة من غبار ودمار وظلام وهزة زلزلت الأرض .. ثم دخلت في غيبوبة .. دامت شهوراً .. وتلك شهور هي غائبة من ذاكرتي بكل ألامها وأوجاعها .. ولكني ذات يوم فتحت أعيني .. فوجدت نفسي أرقد في مستشفى للجيش .. ولكن يا للهول فأنا كتلة من جسد دون أيد وبدون أرجل .. وهناك ملائكة الرحمة من ممرضات الجيش يتكفلون بمهام حياتي من صغيرها وحتى كبيرها !! .. يا كروان أنا أسمع الآن أنين صوتك وقد أبكى الليل بالحزن .. ولكن تمهل فإن مرحلة البكاء لم تأتي بعد في قصتي !! .
( هذه القصة ملك الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد )
حكايتي قد تبكي القلوب .. ولكنها أيضاً أصبحت تحكي عن نوايا ونفوس بدأت تعلن عن حقيقتها .. أولاً حكايتي أوجدت حقيقة وطني التي أحببته وقدمت له نفسي .. فوطني الغالي بعد شهور في ضيافته مل من حالي .. ثم بدأ يتذمر من أمري .. ورويداً رويداً تخلص مني .. فجاءت سيارة الإسعاف تحمل كتلتي .. ثم تركتني في داري مع أهل بيتي .. ثم هناك يا كروان قصة أخرى مع تلك الشريكة في الحياة .. حاولت في البداية أن تجاهد وتناضل حتى يقال أنها بنت ناس .. ولكنها سرعان ما ضاقت بحالي .. وفجأة اتخذت قرارها وفي ذات يوم هجرتني .. والنفس في ذاتي تتمنى لحظة الموت حتى لا تكون عبئاً على الناس .. ولو لا خشيتي من عقاب في الآخرة لسعيت في إنهاء حياتي .. ثم يا كروان أنت تريد أن تسمع الباقي من قصتي .. وبعجالة القول أقول لك الأخلاء لم يكونوا الأخلاء .. والأصدقاء لم يكونوا الأصدقاء والعشيرة لم تكن العشيرة .. فأصبحت تلك الكتلة بلا معين .. وبلا مكلم وبلا مستمع وبلا مجيب .. ثم يا كروان أحكي لك قصة عجيبة .. وقد علمت الآن لماذا كانت الجنة تحت أقدامهن .. فتلك الأم التي كانت بعيدة عند وقوع الأحداث .. عندما سمعت بقصة فلذة كبدها هرولت وأتت تركض .. ثم لما رأت قطعة من كبدها ترقد بغير حول ولا قوة .. ضمته إلى صدرها ثم بكت بحرقة شديدة .. وبسعادة عجيبة بدأت من جديد تطعم طفلها .. وتنظفه .. ثم من حين لآخر تضمه إلى صدرها .. فلم تكل لحظة ولم تمل .. فكأنها تقول للعالم نحن الأمهات لهم !! .. يا كراون الآن جاء دورك في ترديد القصة من جديد .. والليل بسواكنه في انتظار تلك الصيحة الحادة التي تشق عباب الظلام .. ليقول للناس .. المهم الإحساس وليس المهم كمال المقاس .. وخبايا النفوس تظهر عن المحن والانحباس . وهناك في الكون أنفس ضحت ولكنها عانت .