تعتزم أحزاب وقوى وحركات سياسية عديدة - تشعر بالقلق على مصير الثورة المصرية، وتخشى من المحاولات الجارية حالياً للالتفاف حولها وعرقلتها عن تحقيق كامل أهدافها - تنظيم مظاهرة مليونية اليوم فى ميدان التحرير، وهذا حقها، ولديها من الأسباب والعوامل الموضوعية ما يدفعها، بل ما يوجب عليها أن تُقدِم على تحرك من هذا النوع، وإلا اتُهمت بدورها بالتقاعس وخيانة الثورة، غير أن هذا الحق يجب ألا ينسيها حقائق أخرى يتعين أخذها فى الاعتبار عند ممارستها له.
فاللحظة التى تمر بها الثورة حاليا أصبحت شديدة الحساسية بعد أن بدأت القوى المعادية لها فى الداخل والخارج تفيق من هول الصدمة التى أحدثها زلزالها المفاجئ، وتسعى الآن بكل ما أوتيت من قوة لدفع الجيش لصدام مع الشعب، مستخدمة فى ذلك كل ما فى جعبتها من وسائل، بما فى ذلك أكثرها خسة ودناءة، لعرقلة مسيرة الثورة ومنعها من تحقيق أهدافها.
وللتوفيق بين حق الشعب فى حماية ثورته، وواجب الجيش فى تحقيق الاستقرار وحماية الدولة والمجتمع من عبث العابثين فى الداخل والخارج، يتعين على القوى السياسية الداعية للخروج فى مظاهرة مليونية اليوم، من ناحية، وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بوصفه المسؤول عن الإدارة السياسية للدولة فى هذه المرحلة، من ناحية أخرى، أن يتحليا بأقصى قدر من المسؤولية والانضباط.
فحق الشعب فى حماية ثورته يفرض على الداعين للخروج إلى ميدان التحرير اليوم مسؤولية كبرى، يُفترض أن تدفعهم لتوحيد صفوفهم وشعاراتهم وعدم السماح لأحد، كائناً من كان، بأن يقوم بأى شىء قد ينطوى على إساءة للجيش أو إلى أى رمز من رموزه، وتركيز المطالب والشعارات التى ترفع فى ميدان التحرير على:
1- ضرورة إظهار قدر أكبر من الجدية فى محاكمة الرئيس المخلوع وأسرته وكبار رموز النظام، وإحالة العادلى للمحاكمة أمام دائرة أخرى غير الدائرة التى يترأسها القاضى عادل عبدالسلام جمعة المتعاون مع أجهزة الأمن.
2- محاكمة القيادات التى ثبت تورطها فى إفساد الحياة السياسية فى مصر أو التعاون مع أجهزة الأمن السابقة بطريقة ترتب عليها إخلال بواجبات الوظيفة العامة.
3- إجراء الانتخابات المحلية والانتخابات الخاصة بالنقابات العمالية والمهنية ونوادى أعضاء هيئة التدريس، وغيرها، قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
4- عدم إصدار قرارات بقوانين إلا بعد العرض على مؤسسات المجتمع المدنى، وإعادة النظر فى القوانين التى صدرت، لتلافى أوجه القصور التى ظهرت. 5- النظر بجدية فى المطلب الخاص بضرورة إعادة ترتيب أولويات المرحلة الانتقالية، والشروع فى إصدار دستور جديد على الفور.
أما واجب الجيش فى تحقيق الاستقرار وحماية الدولة والمجتمع من عبث العابثين فى الداخل والخارج، فلا يعنى بأى حال من الأحوال مصادرة حق الشعب فى توجيه النقد إلى ما يصدر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولكن بوصفه الهيئة المسؤولة عن الإدارة السياسية للبلاد فى هذه المرحلة وليس بوصفه القيادة العليا للجيش. لذا يتعين على المجلس أن يتحلى بالصبر وسعة الصدر فى تعامله مع الاحتجاجات الجماهيرية، وأن يتذكر أن العصمة لله وحده، وهو ما يفرض عليه أن يراجع نفسه وقراراته بين الحين والآخر، وأن يصحح ما يثبت فى مرحلة لاحقة أنه خطأ.
وأظن أن الحوارات القومية العديدة التى تجرى هذه الأيام، ورغم كل تحفظاتى عليها، أكدت بوضوح أن أغلبية واضحة من القوى السياسية التى شاركت فيه ترى أن الأفضل أن يكون هناك دستور جديد قبل الإقدام على أى انتخابات رئاسية أو تشريعية. ولأن الدستور هو الذى يحدد قواعد إدارة العملية السياسية التى تطبق، ويتعين أن يلتزم بها الجميع، حكاما ومحكومين، فيجب أن يحظى بتوافق مجتمعى تام لا مجال فيه لأغلبية وأقلية.
وأعتقد أن الشروع فى الإجراءات اللازمة لصياغة دستور جديد سيخفف من حدة الاحتقان الذى بدأ يطفو من جديد على سطح الحياة السياسية فى مصر. فهل نملك جميعاً، حكومة ومعارضة، شجاعة التوافق على هذه الخطوة الحكيمة؟
وإلى أن يتم ذلك، لا بأس من أن تخرج الجماهير اليوم لتعبر فى انضباط تام عن قلقها مما يجرى، وتطالب بإجراءات تصحيحية محددة، لكن الأهم من ذلك ألا يسمح المتظاهرون بأى ثغرة يمكن للحاقدين أن ينفذوا منها لافتعال صدام مع الجيش، فهذا خط أحمر يتعين على الجميع إدراكه واحترامه.